بين الكاتيوشا والمياه الجوفية والطائرات... أور أولى حضارات الأرض مهددة بالزوال
الناصرية: أنقذوا سومر، أطلقوا سراح سومر" عنوان كبير وضعته صحيفة محلية تصدر في الناصرية، مركز محافظة ذي قار 380 كم جنوب بغداد، على صدر صفحتها الأولى، للمطالبة برفع الإجراءات الأمنية المشددة المفروضة على المواقع الأثرية في المدينة، والسماح للمواطنين والسياح بمشاهدة بقايا الحضارة التي تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، والتي أغلقت الطرق المؤدية إليها بسبب وجود عدد من المواقع العسكرية.
ويعتز أهالي مدينة الناصرية كثيرا بانتمائهم إلى حضارة سومر، وكثيرا ما يردد مثقفو المدينة أن ثقافتهم تمتد لسبعة آلاف سنة من الحضارة، لذلك تجد أن الكثير من المحلات والشركات المحلية والمدارس والمهرجانات تحمل أسماء مثل أور، وسومر، ولارسا، واوروك، وهي مدن أثرية تعود إلى الحضارة السومرية.
وقد إشتهرت في السنتين الأخيرتين أنشودة يرددها أطفال المدارس في طابور الصباح كل يوم، وتبثها الإذاعات المحلية باستمرار اسمها أور قيثارة العصور.
ويقول الشاعر حازم رشك مؤلف الأنشودة في حديث لـ"نيوزماتيك" إنني أشعر بانتمائي الأصيل إلى شعب سومر الذي اخترع أول أبجدية على وجه الأرض، وبنى أول حضارة، وما يؤلمني هو الفطام الذي تمارسه البندقية ضد من يحاولون العودة إلى الأم، إلى أور الحضارة".
مدينة الناصرية تقع بالقرب من أهم مدن العالم القديم، فعلى بعد 30 كم شرق الناصرية تقع مدينة أور عاصمة السومريين الكبيرة، وتقع بقايا مدينة أريدو على بعد 10 كم جنوبها، فيما تقع لارسا على بعد 40 كم شمال شرقها. وهناك عدد كبير من المواقع الأثرية الأخرى المهمة التي تقع في محيط المدينة.
ويقول الباحث الآثاري عبد الأمير الحمداني، إن "هناك أكثر من 1300 موقع أثري معروف يقع في محافظة ذي قار، بعضها جرت عليه عمليات تنقيب سيئة، والمواقع الباقية معرضة للنبش والسرقة والتنقيب غير القانوني".
فيما يؤكد الباحث سامي كاظم أن الحضارة السومرية كنت ممتدة على أغلب مناطق العراق والخليج، وقد انتشرت المواقع الأثرية على رقعة كبيرة من الأرض.
ويذهب الرحالة الانكليزي كافن يونغ الذي زار الناصرية في خمسينات القرن الماضي في كتابه "العودة إلى الأهوار"، إلا أن عرب الأهوار الذين يعيشون الآن في مستنقعات تمتد لآلاف الأميال بين محافظات جنوب العراق، هم "أحفاد أولئك السومريين الذين استوطنوا هذه الأرض قبل آلاف السنين".
وتعد حضارة سومر من أقدم الحضارات المعروفة. ويقول الباحث هيثم الناصري في حديث لـ"نيوزماتيك"، إن "أولى عمليات التنقيب بدأت في المدينة على يد منقبين انكليز وألمان بدايات القرن الماضي، وأشرف على عمليات التنقيب تلك المنقب الانكليزي ماكس مالون، زوج الكاتبة الشهيرة أغاثا كريستي".
ويقول الناصري إن في مدينة أور وحدها 16 مقبرة ملكية مبنية بالطابوق، وفيها بيت النبي إبراهيم، أبو الأنبياء، وفيها معبد القمر المخصص لعبادة الآلهة الأم إينانا التي ترتبط بها قصة الخلق، في الأساطير السومرية.
وعن أهمية المدن السومرية يقول مدير مركز الجنوب للإعلام الدولي، مؤسسة إعلامية مستقلة، الدكتور محمد أبو الأكبر، إن "بعض الباحثين يذهبون إلى أن سفينة نوح التي ذكرت في الكتب السماوية رست في مدينة أور، وإن نوح السومري الذي تسميه الكتابات المسمارية اوتانبشتم كان يسكن في أور"، ويضيف أبو الأكبر "يعتقد باحثون آخرون أن برج بابل الشهير كان يقع في مدينة أريدو القريبة من أور وليس في بابل كما هو شائع".
ويرى أبو الأكبر إن أور مدينة تحترمها كل الأديان" ويوضح قائلا "هناك إشارات تاريخية تهم المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة المندائيين، مرتبطة بأور باعتبارها مدينة النبي إبراهيم، وباعتبارها أولى حضارات العالم القديم".
ولم تحظ مدينة أور بالاهتمام الكافي لإعادتها إلى الحياة، من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة، وفي عقد الثمانينات من القرن الماضي تحولت مدينة القمر إلى ثكنة عسكرية.
ويقول الكاتب والمؤرخ ماجد كاظم علي لـ"نيوزماتيك"، "في بداية الثمانينات بدأت الحكومة العراقية بإنشاء مطار عسكري يوفر الخدمات اللوجستية للطائرات الحربية التي كانت تشارك في الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، إذ كان المطار يوفر الوقود وخدمات التصليح والتموين للطائرات المحاربة والقطعات العسكرية.
ويتابع المؤرخ علي "مع استمرار الحرب دعت الحاجة إلى توسعة المطار لأكثر من مرة، حتى أصبح قاعدة عسكرية تعرف باسم "قاعدة الأمام علي"، و ألزمت ظروف الحرب حماية القاعدة ببطاريات صواريخ أرض جو، وبطاريات المدافع المضادة للطائرات، وعدد من وحدات الحماية، وكان لابد لهذه الوحدات من أن تتمركز حول القاعدة، ما أدى إلى انتشار الأسلحة والصواريخ ومقرات التدريب، على مساحة واسعة من الأرض أتت على الكثير من المواقع الأثرية، وأسهمت في تدميرها".
ويروي حسن بشيت، 40 سنة، الذي يسكن في قرية السايح القريبة من الموقع الأثري، كيف كان يشاهد الآليات والجرافات وهي تزيح بعض المواقع القريبة من زقورة أور، لشق طريق، أو لإنشاء مركز لتدريب الجنود.
وعن مرحلة تالية يقول الشاعر عدنان السيد لـ"نيوزماتيك "خلال الحرب العراقية الإيرانية أعلنت أور منطقة عسكرية محظور على المدنيين دخولها، وبعد سقوط النظام السابق، استغلت القوات المتعددة الجنسية وجود القاعدة الجوية لتجعل منها مقرا لقوات التحالف الدولي، وقد جرى توسعة المكان وإنشاء أبنية ضخمة بطريقة التهمت المزيد من الأراضي التي يقع تحتها تاريخ العراق".
ويشير بيان صدر الشهر الماضي عن لجنة الدفاع عن أور، وهي تجمع مستقل لفنانين وأدباء مهتمين بتاريخ العراق، إلا "أن ما تم التنقيب عنه لا يتجاوز 1. 5%، من مجموع المواقع الأثرية، وإن هناك 98. 5 % من المواقع لم يجر التنقيب عنها، ويخشى من أنها تعرضت للتلف والضياع".
وأبدى الموقعون على بيان لجنة حماية أور "قلقهم من تواجد القاعدة العسكرية الجوية بالقرب من زقورة أور".
وتدعو مديرة مفتشية آثار ذي قار، وصال نعيم، في حديثها لـ"نيوزماتيك"، جميع المهتمين بالحضارة السومرية وبالآثار العراقية عموما إلى اتخاذ موقف حيال ما تتعرض له مدينة أور الأثرية من أضرار كبيرة، وأوضحت المديرة أن "جماعات مجهولة تقوم بإطلاق القذائف باتجاه قاعدة الطليل الجوية، ما يسفر عن أضرار تصيب المواقع الأثرية، في تلك المنطقة ومنها زقورة أور"، مؤكدة "أن المدينة الأثرية تتعرض أسبوعيا إلى سقوط صاروخ أو صاروخين، كما أن إقلاع وهبوط الطائرات سيؤدي إلى تداعي الأبنية الأثرية بالضرورة".
الدعوات إلى فتح الموقع الأثري أمام الجمهور ليست جديدة، فالصحافي عادل حمد الله قال لـ"لنيوماتيك"إن السنوات الخمس الماضية حفلت بأكثر من نداء لإزالة المظاهر العسكرية من محيط مدينة أور الأثرية".
وطالب حمد الله بالسماح للباحثين والمنقبين باكتشاف هذه الحضارة، وإزالة ما علق بها من مظاهر عسكرية.
وقال الإعلامي حازم ثامر إن السياسة أيضا شوهت جزءا من تاريخ الحضارة السومرية، وروى ثامر لـ"نيوزماتيك" كيف قام النظام السابق بجلب مجموعة من البنائين المحليين ليقوموا ببناء بعض الغرف في مكان يعتقد أنه كان بيت النبي إبراهيم، بمواد محلية وبتصميم غير أصلي، استعدادا لزيارة كان بابا الفاتيكان السابق يوحنا بولس الثاني قد أعلن عن رغبته في إجرائها إلى بيت النبي إبراهيم في أور بمناسبة الألفية الجديدة، وكان النظام السابق وقتها يرغب في الاستفادة من وجود البابا بولس الثاني لإقناعه في العمل على رفع العقوبات الدولية التي كانت تفرضها الأمم المتحدة على العراق بسبب ملف أسلحة الدمار الشامل العراقية.
ويضيف ثامر أن "البابا ألغى الزيارة في وقتها، لكن تشويه التاريخ مازال حاضرا".
ليس وجود القاعدة الجوية فقط هو ما يتهدد الآثار السومرية، بل أن هناك مخاطر أكثر تخريبا لهذا التاريخ، ويقول مدير مفتشية حماية الآثار عبد الفتاح عبد الله لـ"نيوزماتيك" إن عدد أفراد حماية الآثار في ذي قار لا يتجاوز 300 شخص، لا يمتلكون أكثر من ست سيارات، ويفترض بهم أن يحرسوا أكثر من ألف موقع أثري، تتناثر عبر مئات الكيلومترات.
ويقول الباحث الآثاري عبد الأمير الحمداني لـ"نيوزماتيك" إن "آلاف القطع الأثرية قد سرقت وتم تهريبها، نتيجة لعدم وجود حماية للمواقع الأثرية، والأخطر من ذلك هو قيام الكثير من لصوص الآثار بعمليات تنقيب غير قانونية، أتلفت الكثير من الآثار، فعمليات النبش العشوائية لا تهتم إلا بقطع التماثيل الحجرية التي يسهل تهريبها وبيعها في الخارج، وأثناء الحفر قد يتم إتلاف الكثير من الرقم الطينية، والكتابات والأواني الفخارية".
الظروف المناخية أيضا ساهمت في ضياع الكثير من أثار الحضارة السومرية، وأثرت عوامل التعرية المناخية سلبا على الكثير من المواقع والأبنية الأثرية، خصوصا أن أغلب المباني السومرية مصنوعة من الطين، إضافة إلى أن المياه الجوفية ومياه الأنهار تسببت في تلف الكثير من المواقع، آخرها كان تعرض أربعة من المواقع الأثرية المهمة إلى الدمار بسبب ارتفاع مناسيب المياه في أهوار الجنوب، كما قالت وزارة السياحة العراقية، إذ أعلن مدير عام العلاقات في وزارة السياحة والآثار عبد الزهرة الطالقاني لوسائل الإعلام إن مواقع تل شعيب، والجلعه، و الجرباسي، والجفه، قد غمرتها مياه الأهوار تماما، وهذه المواقع تعود لأكثر من 2500 سنة قبل الميلاد".
وكانت الحكومة العراقية قد نفذت بعض الإجراءات لإعادة المياه إلى الأهوار التي جففها نظام الرئيس السابق صدام حسين، بعد إنتفاضة1991، لكن إجراءات إعادة الحياة إلى الأهوار لم تكن مدروسة بطريقة جيدة، ما أدى إلى تسرب المياه إلى أماكن أثرية مهمة والتسبب بتدميرها.
كما أن ارتفاع نسب الرطوبة والأملاح وزحف الكثبان الرملية وعوامل التعرية أضر بالكثير من المواقع الأثرية في ظل عدم وجود صيانة أو عناية مختصة
شبكة البصرة في الاربعاء 24 ربيع الثاني 1429